فصل: فَصْلٌ: في العوارض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.فَصْلٌ: في العوارض:

(وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا فِي رَمَضَانَ فَخَافَ إنْ صَامَ ازْدَادَ مَرَضُهُ أَفْطَرَ وَقَضَى) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُفْطِرُ، هُوَ يَعْتَبِرُ خَوْفَ الْهَلَاكِ أَوْ فَوَاتَ الْعُضْوِ كَمَا يَعْتَبِرُ فِي التَّيَمُّمِ، وَنَحْنُ نَقول: إنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَامْتِدَادَهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ فَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ (وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَسْتَضِرُّ بِالصَّوْمِ فَصَوْمُهُ أَفْضَلُ، وَإِنْ أَفْطَرَ جَازَ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يَعْرَى عَنْ الْمَشَقَّةِ فَجُعِلَ نَفْسُهُ عُذْرًا، بِخِلَافِ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ قَدْ يُخَفَّفُ بِالصَّوْمِ فَشُرِطَ كَوْنُهُ مُفْضِيًا إلَى الْحَرَجِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ فَكَانَ الْأَدَاءُ فِيهِ أَوْلَى، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَهْدِ (وَإِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ وَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا يَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ) لِأَنَّهُمَا لَمْ يُدْرِكَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ ثُمَّ مَاتَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ بِقَدْرِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ) لِوُجُودِ الْإِدْرَاكِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ.
وَفَائِدَتُهُ وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ بِالْإِطْعَامِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي النَّذْرِ. وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ فَيَظْهَرُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْخُلْفِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ السَّبَبُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ) هَذَا الْفَصْلُ فِي الْعَوَارِضِ وَهِيَ حَرِيَّةٌ بِالتَّأْخِيرِ. الْأَعْذَارُ الْمُبِيحَةُ لِلْفِطْرِ: الْمَرَضُ. وَالسَّفَرُ، وَالْحَبَلُ، وَالرَّضَاعُ إذَا أَضَرَّ بِهَا أَوْ بِوَلَدِهَا، وَالْكِبَرُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَالْعَطَشُ الشَّدِيدُ وَالْجُوعُ كَذَلِكَ إذَا خِيفَ مِنْهُمَا الْهَلَاكُ، أَوْ نُقْصَانُ الْعَقْلِ، كَالْأَمَةِ إذَا ضَعُفَتْ عَنْ الْعَمَلِ وَخَشِيَتْ الْهَلَاكَ بِالصَّوْمِ، وَكَذَا الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مُتَوَكِّلُ السُّلْطَانِ إلَى الْعِمَارَةِ فِي الْأَيَّامِ الْحَارَّةِ، وَالْعَمَلُ الْحَثِيثُ إذَا خُشِيَ الْهَلَاكُ أَوْ نُقْصَانُ الْعَقْلِ. وَقَالُوا: الْغَازِي إذَا كَانَ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيَخَافُ الضَّعْفَ إنْ لَمْ يُفْطِرْ، يُفْطِرُ قَبْلَ الْحَرْبِ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا.
قولهُ: (هُوَ يَعْتَبِرُ خَوْفَ الْهَلَاكِ) الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِهِمْ أَنَّهُ كَقولنَا. وَجْهُ قولنَا أَنَّ قوله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يُبِيحُ الْفِطْرَ لِكُلِّ مَرِيضٍ، لَكِنَّ الْقَطْعَ بِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْفِطْرِ لَهُ إنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، وَتَحَقُّقُ الْحَرَجِ مَنُوطٌ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ أَوْ إبْطَاءِ الْبُرْءِ أَوْ فَسَادِ عُضْوٍ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ الْمَرِيضِ، وَالِاجْتِهَادُ غَيْرُ مُجَرَّدِ الْوَهْمِ، بَلْ هُوَ غَلَبَةُ الظَّنِّ عَنْ أَمَارَةٍ أَوْ تَجْرِبَةٍ أَوْ بِإِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ، وَقِيلَ عَدَالَتُهُ شَرْطٌ، فَلَوْ بَرِئَ مِنْ الْمَرَضِ لَكِنَّ الضَّعْفَ بَاقٍ وَخَافَ أَنْ يَمْرَضَ سُئِلَ عَنْهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فَقَالَ: الْخَوْفُ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ كَانَ نَوْبَةُ حُمَّى فَأَكَلَ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ يَعْنِي فِي يَوْمِ النَّوْبَةِ لَا بَأْسَ بِهِ.
قولهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ) وَالْحَقُّ أَنَّ قولهُ كَقولنَا وَلَمْ يُحْكَ ذَلِكَ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسَنُورِدُهُ. وَقول الظَّاهِرِيَّةِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِقولهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَجَعَلَ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ إدْرَاكَ الْعِدَّةِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ السَّبَبِ.
قولهُ: (وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ) وَالصَّوْمُ فِي أَفْضَلِ وَقْتَيْ الصَّوْمِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ أَفْضَلُ فِي حَقِّ صَوْمِ الْمُقِيمِ فَلَا يُفِيدُ، وَإِنْ مُطْلَقًا مَنَعْنَاهُ، وَنُسْنِدُهُ بِمَا رَوَيْنَا وَتَلَوْنَا قُلْنَا: نَخْتَارُ الثَّانِيَ، وَجْهُهُ عُمُومُ قوله تَعَالَى فِي رَمَضَانَ {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَمَا رَوَيْتُمْ مَخْصُوصٌ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا صَائِمٌ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَكَذَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ اسْتَضَرَّوْا بِهِ بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي لَفْظٍ فِيه: «فَقِيلَ لَهُ إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ». وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي، وَفِيه: «وَكَانَ أَمَرَهُمْ بِالْفِطْرِ فَلَمْ يَقْبَلُوا» وَالْعِبْرَةُ وَإِنْ كَانَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَكِنْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ «أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ فِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ. وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» وَفِيهِ مَا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ. حَتَّى إنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ. وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ. وَثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ مَا فِي مُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيِّ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامٌ فِي امْسَفَرِ» وَهَذِهِ لُغَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْيَمَنِ يَجْعَلُونَ مَكَانَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْأَلِفَ وَالْمِيمَ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَمَا فِي ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى التَّمِيمِيِّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَائِمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى الْمَدَنِيِّ: حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ بِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ أَسْنَدَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَتَابَعَهُ يُونُسُ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَلَوْ ثَبَتَ مَرْفُوعًا كَانَ خُرُوجُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ خَرَجَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْفِطْرِ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِهِ.اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «خَرَجَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ» قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ الْفِطْرُ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هَكَذَا قَالَ: يَعْنِي الْبَزَّارَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ غَيْرُ الْبَزَّارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيِّ الْقُرَشِيِّ. يَرْوِي عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ لَا بَأْسَ بِهِ.اهـ. وَهَذَا مِمَّا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْقَائِلُونَ بِمَنْعِ الصَّوْمِ لَا غَيْرُهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ آخِرَ الْأَمْرِ. فَالْحَاصِلُ التَّعَارُضُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَالْجَمْعُ مَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا وَاعْتِبَارِ نَسْخِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ قَاطِعَةٍ فِيهِ.
وَالْجَمْعُ بِمَا قُلْنَا مِنْ حَمْلِ مَا وَرَدَ مِنْ نِسْبَةِ مَنْ لَمْ يُفْطِرْ إلَى الْعِصْيَانِ وَعَدَمِ الْبِرِّ وَفِطْرِهِ بِالْكَدِيدِ عَلَى عُرُوضِ الْمَشَقَّةِ خُصُوصًا. وَقَدْ وَرَدَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نَقْلِ وُقُوعِهَا فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ خُصُوصًا وَأَحَادِيثُ الْجَوَازِ أَقْوَى ثُبُوتًا وَاسْتِقَامَةَ مَجِيءٍ وَأَوْفَقُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ قولهِ سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} فَعَلَّلَ التَّأْخِيرَ إلَى إدْرَاكِ الْعِدَّةِ بِإِرَادَةِ الْيُسْرِ، وَالْيُسْرُ أَيْضًا لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْفِطْرِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْيُسْرُ فِي الصَّوْمِ إذَا كَانَ قَوِيًّا عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَضِرٍّ بِهِ لِمُوَافَقَةِ النَّاسِ. فَإِنَّ فِي الِائْتِسَاءِ تَخْفِيفًا، وَلِأَنَّ النَّفْسَ تَوَطَّنَتْ عَلَى هَذَا الزَّمَانِ مَا لَمْ تَتَوَطَّنْ عَلَى غَيْرِهِ فَالصَّوْمُ فِيهِ أَيْسَرُ عَلَيْهَا. وَبِهَذَا التَّعْلِيلِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لَيْسَ مَعْنَاهُ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بَلْ الْمَعْنَى فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ، أَوْ الْمَعْنَى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يَحِلُّ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَيْهَا لَا كَمَا ظَنَّهُ أَهْلُ الظَّوَاهِرِ.
قولهُ: (وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ) وَهُوَ أَنَّ عِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إذَا صَحَّ وَأَقَامَ يَوْمًا قَضَاءُ الْكُلِّ فَيَلْزَمُ الْإِيصَاءُ بِالْجَمِيعِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنَّمَا يَلْزَمُهُ قَدْرُ مَا صَحَّ وَأَقَامَ، وَالصَّحِيحُ الِاتِّفَاقُ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ قَدْرُ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي النَّذْرِ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ الْمَرِيضُ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ مَثَلًا فَصَحَّ يَوْمًا، فَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ الْكُلُّ وَالْإِيصَاءُ بِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْرُ مَا صَحَّ. وَجْهُ الْفَرْقِ لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ هُوَ السَّبَبُ فِي وُجُوبِ الْكُلِّ فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَحَّ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الصِّحَّةِ، وَالصَّحِيحُ لَوْ قَالَهُ وَمَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ عِدَّةِ الْمَنْذُورِ لَزِمَهُ الْكُلُّ فَكَذَلِكَ هَذَا بِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ وَحَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ فِي النَّذْرِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ النَّذْرِ بِذَلِكَ غَيْرَ مُوجِبٍ شَيْئًا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ وَإِلَّا لَزِمَ الْكُلُّ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ لِتَظْهَرَ فَائِدَتُهُ فِي الْإِيصَاءِ بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ بِالصِّحَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْمُكَلَّفِ مَا أَمْكَنَ وَالنَّذْرُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَقولهِ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الصِّحَّةِ فَيَجِبُ الْكُلُّ، ثُمَّ يَعْجِزُ عَنْهُ لِعَدَمِ إدْرَاكِ الْعِدَّةِ فَيَجِبُ الْإِيصَاءُ كَمَا لَوْ لَمْ يُجْعَلْ مُعَلَّقًا فِي الْمَعْنَى عَلَى مَا قُلْنَا، وَأَمَّا قولهُمْ: السَّبَبُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ، فَهَلْ الْمُرَادُ أَنَّ إدْرَاكَ الْعِدَّةِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ أَوْ الْأَدَاءِ، فَصَرَّحَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ فَقَالَ فِي الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ: وَسَبَبُ الْقَضَاءِ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ جَعَلَهُ سَبَبَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ. وَعَلَى ظَاهِرِ الْأَوَّلِ أَنَّ سَبَبَ الْقَضَاءِ عَلَى مَا اعْتَرَفُوا بِصِحَّتِهِ هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، فَيَكُونُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ سَبَبَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ، وَيَلْزَمُ عَدَمُ حِلِّ التَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ عِدَّةٍ يُدْرِكُهَا، فَإِنْ قَالَ: سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ حُرْمَةَ التَّأْخِيرِ عَنْهُ. قُلْنَا: فَلْيَكُنْ نَفْسُ رَمَضَانَ سَبَبَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ، إذْ لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ سِوَى ذَلِكَ اللَّازِمِ، فَإِذَا كَانَ مُنْتَفِيًا لَزِمَ إذْ هُوَ الْأَصْلُ، وَيَلْزَمُهُ الْإِيصَاءُ بِالْكُلِّ إذَا لَمْ يُدْرِكْ الْعِدَّةَ كَمَا هُوَ قول مُحَمَّدٍ عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ.

متن الهداية:
(وَقَضَاءُ رَمَضَانَ إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ) لِإِطْلَاقِ النَّصِّ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْمُتَابَعَةُ مُسَارَعَةً إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ (وَإِنْ أَخَّرَهُ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ الثَّانِيَ) لِأَنَّهُ فِي وَقْتِهِ (وَقَضَى الْأَوَّلَ بَعْدَهُ) لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقَضَاءِ (وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى التَّرَاخِي، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إنْ أَخَّرَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي رَجُلٍ مَرِضَ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ ثُمَّ صَحَّ فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ: يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ ثُمَّ يَصُومُ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا» وَلَنَا إطْلَاقُ قوله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، فَكَانَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ، غَيْرُ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلْأَوْلَى مِنْ الْمُسَارَعَةِ، وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَفِي سَنَدِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: كَانَ يَكْذِبُ، وَفِيهِ أَيْضًا مَنْ اُتُّهِمَ بِالْوَضْعِ.

متن الهداية:
(وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا) دَفْعًا لِلْحَرَجِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّهُ إفْطَارٌ بِعُذْرٍ (وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا خَافَتْ عَلَى الْوَلَدِ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالشَّيْخِ الْفَانِي. وَلَنَا أَنَّ الْفِدْيَةَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي، وَالْفِطْرَ بِسَبَبِ الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَالْوَلَدُ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ أَصْلًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا) يَرُدُّ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي مَعْزِيًّا إلَى الذَّخِيرَةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُرْضِعِ الظِّئْرُ لِوُجُوبِ الْإِرْضَاعِ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ الْأُمِّ فَإِنَّ الْأَبَ يَسْتَأْجِرُ غَيْرَهَا، وَكَذَا عِبَارَةُ غَيْرِ الْقُدُورِيِّ أَيْضًا تُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ لِلْأُمِّ، وَكَذَا إطْلَاقُ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنْ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ» وَلِأَنَّ الْإِرْضَاعَ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمِّ دِيَانَةً.
قولهُ: (هُوَ يَعْتَبِرُهُ) أَيْ كُلًّا مِنْ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ (بِالشَّيْخِ الْفَانِي) فِي حُكْمٍ هُوَ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ بِإِفْطَارِهِ بِجَامِعِ أَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّوْمُ غَيْرَ أَنَّهُ الْوَلَدُ فِي الْفَرْعِ. قُلْنَا الْقِيَاسُ مُمْتَنِعٌ بِشَرْعِ الْفِدْيَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، إذْ لَا مُمَاثَلَةَ تُعْقَلُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ، وَالْإِلْحَاقُ دَلَالَةً مُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّ الشَّيْخَ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِالْعُمُومَاتِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْفِدْيَةِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ، وَالطِّفْلُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى أُمِّهِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهَا شَرْعًا إلَى خَلَفٍ غَيْرُ الصَّوْمِ، بَلْ أُجِيزَ لَهَا التَّأْخِيرُ فَقَطْ رَحْمَةً عَلَى الْوَلَدِ إلَى خَلَفٍ هُوَ الصَّوْمُ، بِخِلَافِ الشَّيْخِ فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بَلْ أُقِيمَتْ الْفِدْيَةُ مَقَامَ الصِّيَامِ فِي حَقِّهِ. وَحَاصِلُ الدَّفْعِ فِيهِمَا أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عِوَضًا عَنْ الصَّوْمِ لِسُقُوطِهِ بِهَا وَلَا سُقُوطَ فِي الْحَامِلِ.

متن الهداية:
(وَالشَّيْخُ الْفَانِي الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا كَمَا يُطْعِمُ فِي الْكَفَّارَاتِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يُطِيقُونَهُ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ يَبْطُلُ حُكْمُ الْفِدَاءِ لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُطْعِمُ إلَخْ) وَعَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَجْزًا مُسْتَمِرًّا إلَى الْمَوْتِ، فَكَانَ كَالْمَرِيضِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ، وَالْمُسَافِرُ قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} الْآيَةَ. كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ فَعَلَ، حَتَّى أُنْزِلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا نَسَخَتْهَا. وَلَنَا مَا رَوَى عَطَاءُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، وَهِيَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافَ ذَلِكَ فَكَانَ إجْمَاعًا. وَأَيْضًا لَوْ كَانَ لَكَانَ قول ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. مُقَدَّمًا لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ بَلْ عَنْ سَمَاعٍ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مُثْبَتٌ فِي نَظْمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَجَعْلُهُ مَنْفِيًّا بِتَقْدِيرِ حَرْفِ النَّفْيِ لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ إلَّا بِسَمَاعٍ أَلْبَتَّةَ، وَكَثِيرًا مَا يُضْمَرُ حَرْفُ لَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. فِي التَّنْزِيلِ الْكَرِيمِ {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أَيْ لَا تَفْتَأُ وَفِيهِ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أَيْ أَنْ لَا تَضِلُّوا {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَقُلْت يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ** وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْك وَأَوْصَالِي

أَيْ لَا أَبْرَحُ وَقَالَ:
تَنْفَكُّ تَسْمَعُ مَا حَيِيـ ** ـت بِهَالِكٍ حَتَّى تَكُونَهُ

أَيْ لَا تَنْفَكُّ، وَرِوَايَةُ الْأَفْقَهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ قوله تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} لَيْسَ نَصًّا فِي نَسْخِ إجَازَةِ الِافْتِدَاءِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَهَذَا وَلَوْ كَانَ الشَّيْخُ الْفَانِي مُسَافِرًا فَمَاتَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ بِالْفِدْيَةِ، لِأَنَّهُ يُخَالِفُ غَيْرَهُ فِي التَّخْفِيفِ لَا فِي التَّغْلِيظِ، فَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ إلَى الْفِدْيَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّعْيِينِ، وَلَا تَعْيِينَ عَلَى الْمُسَافِرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِانْتِقَالِ، وَلَا تَجُوزُ الْفِدْيَةُ إلَّا عَنْ صَوْمٍ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لَا بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى صَارَ شَيْخًا فَانِيًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ جَازَتْ لَهُ الْفِدْيَةُ، وَكَذَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ الْأَبَدِ فَضَعُفَ عَنْ الصَّوْمِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْمَعِيشَةِ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ، وَلِأَنَّهُ اسْتَيْقَنَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى قَضَائِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِطْعَامِ لِعُسْرَتِهِ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَسْتَقِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لِشِدَّةِ الْحَرِّ كَانَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيَقْضِيَهُ فِي الشِّتَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ نَذَرَ الْأَبَدَ، وَلَوْ نَذَرَ يَوْمًا مُعَيَّنًا فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى صَارَ فَانِيًا جَازَتْ الْفِدْيَةُ عَنْهُ. وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ قَتْلٍ فَلَمْ يَجِدْ مَا يُكَفِّرُ بِهِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ عَاجِزٌ عَنْ الصَّوْمِ أَوْ لَمْ يَصُمْ حَتَّى صَارَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا تَجُوزُ لَهُ الْفِدْيَةُ لِأَنَّ الصَّوْمَ هُنَا بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَلِذَا لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الصَّوْمِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَمَّا يُكَفِّرُ بِهِ مِنْ الْمَالِ، فَإِنْ مَاتَ فَأَوْصَى بِالتَّكْفِيرِ جَازَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَهَذَا وَيَجُوزُ فِي الْفِدْيَةِ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الصَّدَقَةِ فِيهَا، وَالْإِطْعَامِ فِي الْفِدْيَةِ.
قولهُ: (لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ) أَيْ شَرْطَ وُقُوعِ الْفِدْيَةِ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ دَوَامُ الْعَجْزِ عَنْ الصَّوْمِ، فَخَرَجَ الْمُتَيَمِّمُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ لَا تَبْطُلُ الصَّلَوَاتُ الْمُؤَدَّاةُ قَبْلُ بِالتَّيَمُّمِ، لِأَنَّ خَلْفِيَّةَ التَّيَمُّمِ مَشْرُوطٌ بِمُجَرَّدِ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ لَا بِقَيْدِ دَوَامِهِ، وَكَذَا خَلْفِيَّةُ الْأَشْهُرِ عَنْ الْأَقْرَاءِ فِي الِاعْتِدَادِ مَشْرُوطٌ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ مَعَ سِنِّ الْإِيَاسِ لَا بِشَرْطِ دَوَامِهِ، فَلِذَا يَجِبُ الِاعْتِدَادُ بِالدَّمِ إذَا عَادَ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَوْ فِي الْعِدَّةِ الَّتِي فُرِضَ عَوْدُهُ فِيهَا، حَتَّى تُسْتَأْنَفَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخُلْفِ لَا فِي الْأَنْكِحَةِ الْمُبَاشَرَةِ حَالَ ذَلِكَ الِانْقِطَاعِ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْ الْحُكْمِ، وَمُقْتَضَاهُ كَوْنُ الْخَلْفِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَأَوْصَى بِهِ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَصَارَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيصَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى هَذَا الزَّكَاةُ. هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِدُيُونِ الْعِبَادِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ مَالِيٌّ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ. وَلَنَا أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ. وَذَلِكَ فِي الْإِيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ لِأَنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، ثُمَّ هُوَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ، وَكُلُّ صَلَاةٍ تُعْتَبَرُ بِصَوْمِ يَوْمٍ هُوَ الصَّحِيحُ (وَلَا يَصُومُ عَنْهُ الْوَلِيُّ وَلَا يُصَلِّي) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَصَارَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي) إلْحَاقًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ. وَجْهُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَرِيضٍ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ وَعَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ أَنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ يُجْزِي عَنْهُ الْإِطْعَامُ عَلِمَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ عَجْزُهُ عَجْزًا مُسْتَمِرًّا إلَى الْمَوْتِ، فَإِنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمَ هُوَ الَّذِي كُلَّ يَوْمٍ فِي نَقْصٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَيَكُونُ الْوَارِدُ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي وَارِدًا فِي الْمَرِيضِ الَّذِي هُوَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، لَا فَرْقَ إلَّا بِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَسْبِقْ حَالَ جَوَازِ الْإِطْعَامِ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي إلَّا بِقَدْرِ مَا يَثْبُتُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ، وَالْمَرِيضُ تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ بِإِدْرَاكِ الْعِدَّةِ وَعَجْزُهُ الْآنَ بِسَبَبِ تَقْصِيرِهِ فِي الْمُسَارَعَةِ إلَى الْقَضَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى التَّرَاخِي لَا يَكُونُ بِذَلِكَ التَّأْخِيرِ جَانِيًا فَلَا أَثَرَ لِهَذَا الْفَرْقِ فِي إيجَابِ افْتِرَاقِ الْحُكْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا فِي الْأُصُولِ الْإِلْحَاقَ بِالشَّيْخِ الْفَانِي بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ كَمَا مَنَعُوهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ شَرْطَهُ ظُهُورُ الْمُؤَثِّرِ وَأَثَرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ فِي الدَّلَالَةِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي، فَإِنَّ ظُهُورَ الْمُؤَثِّرِ فِيهِ وَهُوَ الْعَجْزُ إنَّمَا يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ الصَّوْمِ. وَهُنَا مَقَامٌ آخَرُ وَهُوَ وُجُودُ الْفِدْيَةِ وَلَا يُعْقَلُ الْعَجْزُ مُؤَثِّرًا فِي إيجَابِهَا، لَكِنَّا نَقول ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصَةِ، وَكَوْنُ الْعَجْزِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ نَصٌّ عَلَى عِلِّيَّةِ مَبْدَأِ الِاشْتِقَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبِيلِ الصَّرِيحِ عِنْدَنَا بَلْ بِالْإِشَارَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} أَيْ لَا يُطِيقُونَهُ. (قولهُ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيصَاءِ عِنْدَنَا) أَيْ فِي لُزُومِ الْإِطْعَامِ عَلَى الْوَارِثِ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى هَذَا الزَّكَاةُ) أَيْ إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنُ الزَّكَاةِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَ مَالَ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَالْعُشْرَ بَعْدَ وَقْتِ وُجُوبِهِ لَا يَجِبُ عَلَى وَارِثِهِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُ الزَّكَاةَ وَالْعُشْرَ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ، ثُمَّ إذَا أَوْصَى فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْوَارِثَ إخْرَاجُهُمَا إذَا كَانَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ زَادَ دَيْنُهُمَا عَلَى الثُّلُثِ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ، فَإِنْ أَخْرَجَ كَانَ مُتَطَوِّعًا عَنْ الْمَيِّتِ وَيُحْكَمُ بِجَوَازِ إجْزَائِهِ. وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي تَبَرُّعِ الْوَارِثِ: يُجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا إذَا أَوْصَى بِالْإِطْعَامِ عَنْ الصَّلَوَاتِ عَلَى مَا يُذْكَرُ، وَيَصِحُّ التَّبَرُّعُ فِي الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ لَا الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ بِلَا إيصَاءٍ إلْزَامُ الْوَلَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَلَا إلْزَامَ فِي الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ. وَجْهُ قول الشَّافِعِيِّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» وَفِي رِوَايَةٍ «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ الْحَدِيثَ، إلَى أَنْ قَالَ فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» قُلْنَا: الِاتِّفَاقُ عَلَى صَرْفِ الْأَوَّلِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الصَّلَاةِ الدَّيْنُ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى أَنَّهُ قال: «لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» وَفَتْوَى الرَّاوِي عَلَى خِلَافِ مَرْوِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى إخْرَاجِ الْمَنَاطِ عَنْ الِاعْتِبَارِ، وَلِذَا صَرَّحُوا بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَنْسُوخًا لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالْجَامِعِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ اعْتِبَارِهِ، إذْ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَاسْتَمَرَّ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُهُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ بَلَاغًا فَقَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّيَ عَنْ أَحَدٍ.اهـ. وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ النَّسْخَ، وَأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ آخِرًا، وَإِذَا أُهْدِرَ كَوْنُ الْمَنَاطِ الدَّيْنَ فَإِنَّمَا يُعَلَّلُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْ الْمَيِّتِ عَلَى الْوَارِثِ بِدَيْنِ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ مَحَلُّ الِاتِّفَاقِ، وَلَيْسَ هُوَ الْكَائِنَ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ إلَّا بِالْإِيصَاءِ، ثُمَّ إذَا أَوْصَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ، وَعَلَى هَذَا دَيْنُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالنَّفَقَةُ الْوَاجِبَةِ وَالْكَفَّارَاتُ الْمَالِيَّةُ وَالْحَجُّ وَفِدْيَةُ الصِّيَامَاتِ الَّتِي عَلَيْهِ وَالصَّدَقَةُ الْمَنْذُورَةُ وَالْخَرَاجُ وَالْجِزْيَةُ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ بَيْنَ عُقُوبَةٍ وَعِبَادَةٍ، فَمَا كَانَ عِبَادَةً فَشَرْطُ إجْزَائِهَا النِّيَّةُ لِيَتَحَقَّقَ أَدَاؤُهَا مُخْتَارًا فَيَظْهَرَ اخْتِيَارُهُ الطَّاعَةَ مِنْ اخْتِيَارِهِ الْمَعْصِيَةَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّكْلِيفِ، وَفِعْلُ الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْمُبْتَلَى بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُحَقِّقُ اخْتِيَارَهُ، بَلْ لَمَّا مَاتَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ وَلَا أَمْرٍ بِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عِصْيَانُهُ بِخُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ وَلَمْ يَمْتَثِلْ، وَذَلِكَ يُقَرِّرُ عَلَيْهِ مُوجَبَ الْعِصْيَانِ، إذْ لَيْسَ فِعْلُ الْوَارِثِ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ حَالَ حَيَاتِهِ وَمَا كَانَ فِيهَا مَعَ ذَلِكَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ فَاتَ فِيهِ الْأَمْرَانِ إذْ لَمْ يَتَحَقَّقْ إيقَاعُ مَا يَسْتَشِقُّهُ مِنْهُ لِيَكُونَ زَاجِرًا لَهُ، بِخِلَافِ دُيُونِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَمْرِ بِأَدَائِهَا وُصُولُ الْمَالِ إلَى مَنْ هُوَ لَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ حَاجَتَهُ، وَلِذَا إذَا ظَفِرَ مَنْ لَهُ بِجِنْسِهِ كَانَ لَهُ أَخْذُهُ وَيَسْقُطُ عَنْ ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ فَلَزِمَتْ مِنْ غَيْرِ إيصَاءٍ لِتَحَقُّقِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِفِعْلِ الْوَارِثِ هُنَا، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: لَا يُورَثُ خِيَارُ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةُ لِأَنَّهُ رَأْيٌ كَانَ لِلْمَيِّتِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ فِي الْمَعْنَى اُحْتُبِسَ عِنْدَ الْبَائِعِ. وَإِذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْنَا عَلِمْت أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هِيَ الْأَفْعَالُ إذْ بِهَا تَظْهَرُ الطَّاعَةُ وَالِامْتِثَالُ، وَمَا كَانَ مَالِيًّا مِنْهَا، فَالْمَالُ مُتَعَلِّقُ الْمَقْصُودِ: أَعْنِي الْفِعْلَ، وَقَدْ سَقَطَتْ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا بِالْمَوْتِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِ طَاعَتِهِ بِهَا فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ الْإِيصَاءُ بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُهَا تَبَرُّعًا مِنْ الْمَيِّتِ ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، بِخِلَافِ دَيْنِ الْعِبَادِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا نَفْسُ الْمَالِ لَا الْفِعْلُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي التَّرِكَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهَا بِلَا إيصَاءٍ.
قولهُ: (وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ) وَجْهُهُ: أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ ثَبَتَتْ شَرْعًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ثَابِتَةٌ، وَمِثْلُ مِثْلِ الشَّيْءِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِثْلًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ يَجِبُ الْإِطْعَامُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهَا لَا يَجِبُ، فَالِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ، فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ ثُبُوتَ الْمُمَاثَلَةِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ الَّذِي هُوَ السُّقُوطُ وَإِلَّا كَانَ بِرًّا مُبْتَدَأً يَصْلُحُ مَاحِيًا لِلسَّيِّئَاتِ، وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِيهِ يُجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ كَمَا قَالَ فِي تَبَرُّعِ الْوَارِثِ بِالْإِطْعَامِ، بِخِلَافِ إيصَائِهِ بِهِ عَنْ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ جَزَمَ بِالْإِجْزَاءِ.
قولهُ: (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ مِنْ قول ابْنِ مُقَاتِلٍ: إنَّهُ يُطْعِمُ لِكُلِّ صَلَاةِ يَوْمٍ مِسْكِينًا لِأَنَّهَا كَصِيَامِ يَوْمٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا فِي الْكِتَابِ، لِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ فَرْضٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَانَتْ كَصَوْمِ يَوْمٍ.

متن الهداية:
(وَمَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَوْ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَضَاهُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. لَهُ أَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْمُؤَدَّى فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى قُرْبَةٌ وَعَمَلٌ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ بِالْمُضِيِّ عَنْ الْإِبْطَالِ، وَإِذَا وَجَبَ الْمُضِيُّ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِتَرْكِهِ. ثُمَّ عِنْدَنَا لَا يُبَاحُ الْإِفْطَارُ فِيهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا وَيُبَاحُ بِعُذْرٍ، وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَضَاهُ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا فَسَدَ عَنْ قَصْدٍ أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ عَرَضَ الْحَيْضُ لِلصَّائِمَةِ الْمُتَطَوِّعَةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي نَفْسِ الْفَسَادِ هَلْ يُبَاحُ أَوَّلًا؟ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَا إلَّا بِعُذْرٍ، وَرِوَايَةُ الْمُنْتَقَى يُبَاحُ بِلَا عُذْرٍ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هَلْ الضِّيَافَةُ عُذْرٌ أَوْ لَا؟ قِيلَ نَعَمْ، وَقِيلَ لَا، وَقِيلَ عُذْرٌ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا بَعْدَهُ، إلَّا إذَا كَانَ فِي عَدَمِ الْفِطْرِ بَعْدَهُ عُقُوقٌ لِأَحَدِ الْوَالِدَيْنِ لَا غَيْرِهِمَا حَتَّى لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ لَيُفْطِرَنَّ لَا يُفْطِرُ. وَقِيلَ: إنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ لَا يُبَاحُ الْفِطْرُ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُفْطِرُ، وَاعْتِقَادِي أَنَّ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى أَوْجَهُ، وَعَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ يَنْصَبُّ الْكَلَامُ فِي خِلَافِيَّةِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا، وَيَتَبَيَّنُ وَجْهُ اخْتِيَارِنَا لَهَا فِي ضِمْنِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالت: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْنَا لَا، قَالَ: فَإِنِّي إذًا صَائِمٌ ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، قَالَ: أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا، فَأَكَلَ وَفِي لَفْظٍ فَأَكَلَ، وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، وَلُزُومُ الْقَضَاءِ مُرَتَّبٌ عَلَى وُجُوبِهِ فَلَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ مَوْقُوفًا: «الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ» وَفِي كُلٍّ مِنْ سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ اخْتِلَافٌ. وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: صَحَّ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ حَتَّى إذَا كَانَ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ وَهُوَ صَائِمٌ رَفَعَ إنَاءً فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ وَفِي لَفْظٍ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَصْرِ زَادَ مُسْلِمٌ عَامَ الْفَتْحِ» وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِلتَّأْخِيرِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا كَانَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهِ لِلسَّفَرِ كَانَ لَهُ إذَا دَخَلَ فِيهِ أَنْ يُفْطِرَ كَمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَالتَّطَوُّعُ أَوْلَى. وَحَاصِلُهُ اسْتِدْلَالٌ بِفِطْرِهِ فِي الْفَرْضِ بَعْدَ الشُّرُوعِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَلَى إبَاحَةِ فِطْرِهِ فِي النَّفْلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ. وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ جِدًّا. وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْقِيَاسُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقولهُ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} الْآيَةُ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ ذَمِّهِمْ عَلَى عَدَمِ رِعَايَةِ مَا الْتَزَمُوهُ مِنْ الْقُرَبِ الَّتِي لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِمْ، وَالْقَدْرُ الْمُؤَدِّي عَمَلٌ كَذَلِكَ فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ عَنْ الْإِبْطَالِ بِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ، فَإِذَا أَفْطَرَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ تَفَادِيًا عَنْ الْإِبْطَالِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالت: «كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ فَعَرَضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَدَرَتْنِي إلَيْهِ حَفْصَةُ وَكَانَتْ ابْنَةَ أَبِيهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْنِ فَعَرَضَ عَلَيْنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ قَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ» وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِزَمِيلٍ سَمَاعٌ مِنْ عُرْوَةَ، وَلَا لِيَزِيدَ سَمَاعٌ مِنْ عُرْوَةَ، وَأَعَلَّهُ التِّرْمِذِيُّ بِأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ. فَقَالَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَعْمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عُرْوَةَ، وَهَذَا أَصَحُّ، ثُمَّ أُسْنِدَ إلَى ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ أَحَدَّثَك عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ فِي هَذَا شَيْئًا. وَلَكِنْ سَمِعْنَا فِي خِلَافَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ نَاسٍ عَنْ بَعْضِ مَنْ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ.اهـ. قُلْنَا: قول الْبُخَارِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَالْمُخْتَارُ الِاكْتِفَاءُ بِالْعِلْمِ بِالْمُعَاصَرَةِ عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَوْ سَلِمَ إعْلَالُهُ وَإِعْلَالُ التِّرْمِذِيِّ فَهُوَ قَاصِرٌ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ، لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ غَيْرِهَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالت: «أَصْبَحْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ» الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ غَيْرَهُمَا عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ خُصَيْفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَصْبَحَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَحَمَّادُ بْنُ الْوَلِيدِ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ غَيْرِ الْكُلِّ فِي الْوَسِيطِ. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الْجَمَّالُ قَالَ: ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَكِّيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرَوَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: «أُهْدِيَتْ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَدِيَّةٌ وَهُمَا صَائِمَتَانِ فَأَكَلَتَا مِنْهَا فَذَكَرَتَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ وَلَا تَعُودَا» فَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ ثُبُوتًا لَا مَرَدَّ لَهُ لَوْ كَانَ كُلُّ طَرِيقٍ مِنْ هَذِهِ ضَعِيفًا لِتَعَدُّدِهَا وَكَثْرَةِ مَجِيئِهَا، وَثَبَتَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَجْهُولَ فِي قول الزُّهْرِيِّ فِيمَا أَسْنَدَ التِّرْمِذِيُّ إلَيْهِ عَنْ بَعْضِ مَنْ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ثِقَةٌ أَخْبَرَ بِالْوَاقِعِ، فَكَيْفَ وَبَعْضُ طُرُقِهِ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ. وَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ خُرُوجٌ عَنْ مُقْتَضَاهُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ، بَلْ هُوَ مَحْفُوفٌ بِمَا يُوجِبُ مُقْتَضَاهُ وَيُؤَكِّدُ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قوله تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَا تُحْبِطُوا الطَّاعَاتِ بِالْكَبَائِرِ، كَقولهِ تَعَالَى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلَى أَنْ قال: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} وَكَلَامُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ هَذَا قول الصَّحَابَةِ، أَوْ لَا تُبْطِلُوهَا بِمَعْصِيَتِهِمَا: أَيْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ الْإِبْطَالُ بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَهُوَ قول ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَنْهُ بِالشَّكِّ وَالنِّفَاقِ أَوْ بِالْعُجْبِ، وَالْكُلُّ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِبْطَالِ إخْرَاجُهَا عَنْ أَنْ تَتَرَتَّب عَلَيْهَا فَائِدَةٌ أَصْلًا كَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ. وَهَذَا غَيْرُ الْإِبْطَالِ الْمُوجِبِ لِلْقَضَاءِ فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ بِاعْتِبَارِ الْمُرَادِ دَلِيلًا عَلَى مَنْعِ هَذَا الْإِبْطَالِ، بَلْ دَلِيلًا عَلَى مَنْعِهِ بِدُونِ قَضَاءٍ، فَيَكُونُ دَلِيلُ رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا إبَاحَةُ الْفِطْرِ مَعَ إيجَابِ الْقَضَاءِ، وَلِهَذَا اخْتَرْنَاهَا لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ بِاعْتِبَارِ الْمُرَادِ مِنْهَا عَلَى سِوَى ذَلِكَ. وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ لَا تُفِيدُ سِوَى إيجَابِ الْقَضَاءِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَهِيَ قوله: «وَلَا تَعُودَا» وَهِيَ مَعَ كَوْنِهَا مُتَفَرَّدًا بِهَا لَا تَقْوَى قُوَّةَ حَدِيثِ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمِ الِاسْتِدْلَال بِهِ لِلشَّافِعِيِّ، فَبَعْدَ تَسْلِيمِ ثُبُوتِ الْحُجِّيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ، وَكَذَا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ «آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ نَمْ فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ قُمْ الْآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: صَدَقَ سَلْمَانُ» وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الضِّيَافَةَ عُذْرٌ، وَكَذَا مَا أَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ إلَى جَابِرٍ قال: «صَنَعَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فَدَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا أَتَى بِالطَّعَامِ تَنَحَّى رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَا لَكَ؟ قَالَ: إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: تَكَلَّفَ أَخُوكَ وَصَنَعَ طَعَامًا ثُمَّ تَقول إنِّي صَائِمٌ، كُلْ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ». فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الْفِطْرِ مَمْنُوعًا إذْ لَا يُعْهَدُ لِلضِّيَافَةِ أَثَرٌ فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ، وَلِذَا مَنَعَ الْمُحَقِّقُونَ كَوْنَهَا عُذْرًا كَالْكَرْخِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَاسْتَدَلَّا بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ: أَيْ فَلْيَدْعُ لَهُمْ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقول بَعْضِهِمْ: ثَبَتَ مَوْقُوفٌ عَلَى إبْدَاءِ ثَبْتٍ، ثُمَّ لَا يَقْوَى قُوَّةَ حَدِيثِ سَلْمَانَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَلَى رِوَايَةِ الْمُنْتَقَى تَتَظَافَرُ الْأَدِلَّةُ وَلَا يُعَارِضُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يُثْبِتُهَا عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَعَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ النَّفَلَيْنِ حَيْثُ يَجِبُ قَضَاؤُهُمَا إذَا أُفْسِدَا.

متن الهداية:
(وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي رَمَضَانَ أَمْسَكَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا) قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالتَّشَبُّهِ (وَلَوْ أَفْطَرَا فِيهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ (وَصَامَا بَعْدَهُ) لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَالْأَهْلِيَّةِ (وَلَمْ يَقْضِيَا يَوْمَهُمَا وَلَا مَا مَضَى) لِعَدَمِ الْخِطَابِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِيهَا الْجُزْءُ الْمُتَّصِلُ بِالْأَدَاءِ فَوُجِدَتْ الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَهُ، وَفِي الصَّوْمِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَالْأَهْلِيَّةُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْكُفْرُ أَوْ الصِّبَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ أَدْرَكَ وَقْتَ النِّيَّةِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ مُنْعَدِمَةٌ فِي أَوَّلِهِ إلَّا أَنَّ لِلصَّبِيِّ أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ الْكَافِرِ عَلَى مَا قَالُوا، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّطَوُّعِ أَيْضًا، وَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ إلَخْ) كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَ بِصِفَةٍ أَثْنَاءَ النَّهَارِ أَوْ قَارَنَ ابْتِدَاءُ وُجُودِهَا طُلُوعَ الْفَجْرِ وَتِلْكَ الصِّفَةُ بِحَيْثُ لَوْ كَانَتْ قَبْلَهُ وَاسْتَمَرَّتْ مَعَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ تَشَبُّهًا كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ يَطْهُرَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْ مَعَهُ، وَالْمَجْنُونِ يُفِيقُ، وَالْمَرِيضِ يَبْرَأُ، وَالْمُسَافِرِ يَقْدَمُ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ بَعْدَ الْأَكْلِ، أَمَّا إذَا قَدِمَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْأَكْلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ لِمَا فِي الْكِتَابِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ نَوَى الْفِطْرَ وَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قَدِمَ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ نِيَّةُ الصَّوْمِ، وَاَلَّذِي أَفْطَرَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مُكْرَهًا أَوْ أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ اسْتَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ غُرُوبِ الشَّمْسِ، أَوْ تَسَحَّرَ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَقِيلَ الْإِمْسَاكُ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، لِقول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ نَهَارًا: لَا يَحْسُنُ أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ وَالنَّاسُ صِيَامٌ. وَالصَّحِيحُ الْوُجُوبُ لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فَلْيَصُمْ، وَقَالَ فِي الْحَائِضِ فَلْتَدَعْ. وَقول الْإِمَامِ لَا يَحْسُنُ تَعْلِيلٌ لِلْوُجُوبِ: أَيْ لَا يَحْسُنُ بَلْ يَقْبُحُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِهَا فَقَالَ فِي الْمُسَافِرِ: إذَا أَقَامَ بَعْدَ الزَّوَالِ إنِّي أَسْتَقْبِحُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَالنَّاسُ صِيَامٌ وَهُوَ مُقِيمٌ، فَبَيَّنَ مُرَادَهُ بِعَدَمِ الِاسْتِحْسَانِ، وَلِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِلدَّلِيلِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِمْسَاكِ لِمَنْ أَكَلَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ حِينَ كَانَ وَاجِبًا، وَلَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ فَوَائِدُ قُيُودِ الضَّابِطِ، وَقُلْنَا: كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَ أَوْ قَارَنَ وَلَمْ نَقُلْ مَنْ صَارَ بِصِفَةٍ إلَخْ لِيَشْمَلَ مَنْ أَكَلَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لِأَنَّ الصَّيْرُورَةَ لِلتَّحَوُّلِ، وَلَوْ لِامْتِنَاعِ مَا يَلِيهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُفَادُ بِهِمَا فِيهِ.
قولهُ: (لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ عَلَيْهِمَا) وَقَالَ زُفَرُ فِي الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ: يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ إدْرَاكَ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ بَعْدَ الْأَهْلِيَّةِ مُوجِبٌ كَمَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ فِي الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ كَذَلِكَ. وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بِأَنَّ السَّبَبَ فِي الصَّلَاةِ الْجُزْءُ الْقَائِمُ عِنْدَ الْأَهْلِيَّةِ أَيَّ جُزْءٍ كَانَ، فَتَحَقَّقَ الْمُوجِبُ فِي حَقِّهِمَا، وَفِي الصَّوْمِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يُصَادِفْهُ أَهْلًا. وَعَلَى هَذَا فَقولهُمْ فِي الْأُصُولِ الْوَاجِبُ الْمُؤَقَّتُ قَدْ يَكُونُ الْوَقْتُ فِيهِ سَبَبًا لِلْمُؤَدَّيْ وَظَرْفًا لَهُ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ أَوْ سَبَبًا وَمِعْيَارًا وَهُوَ مَا يَقَعُ فِيهِ مُقَدَّرًا بِهِ كَوَقْتِ الصَّوْمِ تَسَاهُلٌ إذْ يَقْتَضِي أَنَّ السَّبَبَ تَمَامُ الْوَقْتِ فِيهِمَا وَقَدْ بَانَ خِلَافُهُ، ثُمَّ عَلَى مَا بَانَ مِنْ تَحْقِيقِ الْمُرَادِ قَدْ يُقَالُ: يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجِبَ الْإِمْسَاكُ فِي نَفْسِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ لِلْوُجُوبِ، وَإِلَّا لَزِمَ سَبْقُ الْوُجُوبِ عَلَى السَّبَبِ لِلُزُومِ تَقَدُّمِ السَّبَبِ، فَالْإِيجَابُ فِيهِ يَسْتَدْعِي سَبَبًا سَابِقًا، وَالْفَرْضُ خِلَافُهُ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ لَزِمَ كَوْنُ مَا ذَكَرُوهُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ مِنْ أَنَّ السَّبَبِيَّةَ تُضَافُ إلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ عَقِيبَهُ انْتَقَلَتْ إلَى مَا يَلِي ابْتِدَاءَ الشُّرُوعِ، فَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ تَقَرَّرَتْ السَّبَبِيَّةُ فِيهِ، وَاعْتُبِرَ حَالُ الْمُكَلَّفِ عِنْدَهُ تَكَلُّفًا مُسْتَغْنًى عَنْهُ إذْ لَا دَاعِيَ لِجَعْلِهِ مَا يَلِيهِ دُونَ مَا وَقَعَ فِيهِ.
قولهُ: (عَلَى مَا قَالُوا) إشَارَةٌ إلَى الْخِلَافِ، وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ كَانَ أَهْلًا فَتَتَوَقَّفُ إمْسَاكَاتُهُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ فِي وَقْتِهَا، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلًا أَصْلًا فَلَا تَتَوَقَّفُ فَيَقَعُ فِطْرًا فَلَا يَعُودُ صَوْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا بِمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ وَالْكَافِرُ يُسْلِمُ، قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نِيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلتَّطَوُّعِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ وَلَا صِحَّةَ الشُّرُوعِ (وَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ) لِزَوَالِ الْمُرَخِّصِ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِقَامَةِ فَهَذَا أَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْمُبِيحِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ) أَيْ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ بِدَلِيلِ قولهِ وَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ نِيَّةُ الْإِفْطَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ إذَا قَدِمَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْأَكْلِ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِنِيَّةٍ يُنْشِئُهَا.
قولهُ: (أَلَا تَرَى إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الْمُرَخِّصَ السَّفَرُ، فَلَمَّا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ كَانَ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ بِتَعَيُّنِ الصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ بِحُدُوثِ إنْشَائِهِ. وَقَدْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّا قَدَّمْنَاه: «أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَامَ الْفَتْحِ حَتَّى إذَا كَانَ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ وَهُوَ صَائِمٌ رَفَعَ إنَاءً فَشَرِبَ» اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُدْفَعَ بِتَجْوِيزِ كَوْنِ خُرُوجِهِ كَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَأَيْضًا قولهُمْ: مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُرَخِّصُ، فَالْخِطَابُ بِالصَّوْمِ عَيْنًا مَمْنُوعٌ، لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ بِتَعَيُّنِهِ إنْ لَمْ يُحْدِثْ سَفَرًا فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ فَيَجِبُ الشُّرُوعُ قَبْلَهُ، فَإِذَا سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ زَالَ التَّعَيُّنُ لِأَنَّهُ كَانَ بِشَرْطِ عَدَمِهِ، وَهَذَا الْبَحْثُ مَذْهَبُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ حَكَاهُ بَعْضُ شَارِحِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَعَيُّنِ صَوْمِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إبَاحَةَ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ إذَا لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ، فَإِذَا نَوَاهُ لَيْلًا وَأَصْبَحَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ عَزِيمَتَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلَا يَحِلُّ فِطْرُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَكِنْ لَوْ أَفْطَرَ فِيهِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ وَهُوَ السَّفَرُ قَائِمٌ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَبِهَا تَنْدَفِعُ الْكَفَّارَةُ. وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ كُرَاعِ الْغَمِيمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ فِطْرَهُ عِنْدَهُ لَيْسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ مِنْ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ لَا يَصِلُ إلَيْهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، بَلْ مَعْنَى قول الرَّاوِي حَتَّى إذَا كَانَ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ وَهُوَ صَائِمٌ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا حِينَ وَصَلَ إلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلِهِ مُقِيمًا غَيْرَ أَنَّهُ شَرَعَ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ وَهُوَ مُسَافِرٌ ثُمَّ أَفْطَرَ. وَتَبَيَّنَ بِهَذَا انْدِفَاعُ الْإِشْكَالِ عَنْ تَعَيُّنِ الصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَنْشَأَ فِيهِ السَّفَرَ وَتَقْرِيرُهُ عَلَى تَعَيُّنِ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي شَرَعَ فِي صَوْمِهِ عَنْ الْفَرْضِ وَهُوَ مُسَافِرٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ بُلُوغُهُ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ أَشْكَلَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَعْدُ أَشْكَلَ عَلَى مَا بَعْدَهُ وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِتَجْوِيزِ كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ بُلُوغَ الْجَهْدِ الْمُبِيحِ لِفِطْرِ الْمُقِيمِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَخَشِيَ الْهَلَاكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ) هُمَا إذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ بَعْدَ الصَّوْمِ وَإِذَا صَامَ مُسَافِرًا ثُمَّ أَقَامَ.

متن الهداية:
(وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِ الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ) لِوُجُودِ الصَّوْمِ فِيهِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ الْمَقْرُونُ بِالنِّيَّةِ إذْ الظَّاهِرُ وُجُودُهَا مِنْهُ (وَقَضَى مَا بَعْدَهُ) لِانْعِدَامِ النِّيَّةِ (وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ غَيْرَ يَوْمِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ) لِمَا قُلْنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَقْضِي مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِنْدَهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِكَافِ، وَعِنْدَنَا لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ، لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَيْسَ بِزَمَانٍ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ. بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ قَضَاهُ) لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ يُضْعِفُ الْقُوَى وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا فَيَصِيرُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ لَا فِي الْإِسْقَاطِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ يُضْعِفُ الْقَوِيَّ وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا) أَيْ الْعَقْلَ وَلِهَذَا اُبْتُلِيَ بِهِ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَدْ أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ لَمْ يَقْضِهِ) خِلَافًا لِمَالِكٍ هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِغْمَاءِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُسْقِطَ هُوَ الْحَرَجُ وَالْإِغْمَاءُ لَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ عَادَةً فَلَا حَرَجَ، وَالْجُنُونُ يَسْتَوْعِبُهُ فَيَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ (وَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي بَعْضِهِ قَضَى مَا مَضَى) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. هُمَا يَقولانِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْقَضَاءُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، وَصَارَ كَالْمُسْتَوْعَبِ. وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الشَّهْرُ وَالْأَهْلِيَّةُ بِالذِّمَّةِ، وَفِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ وَهُوَ صَيْرُورَتُهُ مَطْلُوبًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْرُجُ فِي أَدَائِهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَوْعَبِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ فِي الْأَدَاءِ فَلَا فَائِدَةَ وَتَمَامُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ، قِيلَ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا الْتَحَقَ بِالصَّبِيِّ فَانْعَدَمَ الْخِطَابُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ، وَهَذَا مُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ) قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: الْمُرَادُ فِيمَا يُمْكِنُهُ إنْشَاءُ الصَّوْمِ فِيهِ، حَتَّى لَوْ أَفَاقَ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَصِحُّ فِيهِ كَاللَّيْلِ، وَاَلَّذِي يُعْطِيهِ الْوَجْهُ الْآتِي ذِكْرُهُ خِلَافُهُ.
قولهُ: (فَيَكُونُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ لَا فِي الْإِسْقَاطِ) رَتَّبَهُ بِالْفَاءِ عَلَى كَوْنِهِ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ بَلْ يُضْعِفُهُ نَتِيجَةً لَهُ. فَحَاصِلُهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُزِيلٍ لَمْ يَسْقُطْ فَيَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَزَالَهُ كَانَ مُسْقِطًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْجُنُونَ مُزِيلٌ لَهُ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُزِيلٌ لَهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلْزِمٌ لِلْحَرَجِ، فَكَانَ الْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ التَّعْلِيلُ بِعَدَمِ لُزُومِ الْحَرَجِ فِي إلْزَامِ قَضَاءِ الشَّهْرِ بِالْإِغْمَاءِ فِيهِ كُلِّهِ بِخِلَافِ جُنُونِ الشَّهْرِ كُلِّهِ، فَإِنَّ تَرْتِيبَ قَضَاءِ الشَّهْرِ عَلَيْهِ مُوجِبٌ لِلْحَرَجِ، وَهَذَا لِأَنَّ امْتِدَادَ الْإِغْمَاءِ شَهْرًا مِنْ النَّوَادِرِ لَا يَكَادُ يُوجَدُ وَإِلَّا كَانَ رُبَّمَا يَمُوتُ، فَإِنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا حَرَجَ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ النَّوَادِرِ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَإِنَّ امْتِدَادَهُ شَهْرًا غَالِبٌ فَتَرْتِيبُ الْقَضَاءِ مَعَهُ مُوجِبٌ لِلْحَرَجِ. وَقَدْ سَلَكَ الْمُصَنِّفُ مَسْلَكَ التَّحْقِيقِ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ إلْزَامِ الْقَضَاءِ بِجُنُونِ الشَّهْرِ، حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا أَنَّ الْمُسْقِطَ هُوَ الْحَرَجُ. ثُمَّ قَالَ: وَالْإِغْمَاءُ لَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ عَادَةً فَلَا حَرَجَ، فَأَفَادَ تَعْلِيلَ وُجُوبِ قَضَاءِ الشَّهْرِ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهِ كُلِّهِ بِعَدَمِ الْحَرَجِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيلٌ بِعَدَمِ الْمَانِعِ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَانِعٌ، لَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ انْتِفَاءَ الْوُجُوبِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَانِعِ الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ لِنُدْرَةِ امْتِدَادِ الْإِغْمَاءِ شَهْرًا. وَبَسْطُ مَبْنَى هَذَا أَنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي يَثْبُتُ جَبْرًا بِالسَّبَبِ أَعْنِي أَصْلَ الْوُجُوبِ لَا يَسْقُطُ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ لِعَدَمِهِ أَوْ ضَعْفِهِ، بَلْ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ مُتَعَلِّقِهِ مُجَرَّدَ إيصَالِ الْمَالِ لِجِهَةٍ كَالنَّفَقَةِ وَالدَّيْنِ ثَبَتَ الْوُجُوبُ مَعَ هَذَا الْعَجْزِ، لِأَنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ فَيُطَالِبُ بِهِ وَلِيَّهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا نَفْسُ الْفِعْلِ لِيَظْهَرَ مَقْصُودُ الِابْتِلَاءِ مِنْ اخْتِيَارِ الطَّاعَةِ أَوْ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِ هَذَا الْعَجْزِ الْكَائِنِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ مِمَّا يَلْزَمُهُ الِامْتِدَادُ أَوْ لَا يَمْتَدُّ عَادَةً أَوْ قَدْ وَقَدْ. فَفِي الْأَوَّلِ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ كَالصِّبَا لِأَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ فَائِدَتَهُ، وَهِيَ إمَّا فِي الْأَدَاءِ وَهُوَ مُنْتَفٍ إذْ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ بِالْأَدَاءِ فِي حَالَةِ الصِّبَا أَوْ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَرَجِ الْبَيِّنِ فَانْتَفَى، وَفِي الثَّانِي لَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ مَعَهُ، بَلْ يَثْبُتُ شَرْعًا لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْخُلْفِ وَهُوَ الْقَضَاءُ فَيَصِلَ بِذَلِكَ إلَى مَصْلَحَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ رَحْمَةً عَلَيْهِ كَالنَّوْمِ، فَلَوْ نَامَ تَمَامَ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا شَرْعًا، فَعِلْمنَا أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ هَذَا الْعَارِضَ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا يَمْتَدُّ غَالِبًا عَدَمًا إذْ لَا حَرَجَ فِي ثُبُوتِ الْوُجُوبِ مَعَهُ لِيَظْهَرَ حُكْمُهُ فِي الْخُلْفِ، ثُمَّ لَوْ نَامَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَيْضًا لِأَنَّهُ نَادِرٌ لَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَغَيُّرَ الِاعْتِبَارِ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ شَرْعًا، أَعْنِي اعْتِبَارَهُ عَدَمًا إذْ لَا حَرَجَ فِي النَّوَادِرِ، وَفِي الثَّالِثِ أَدَرْنَا ثُبُوتَ الْوُجُوبِ وَعَدَمَهُ عَلَى ثُبُوتِ الْحَرَجِ إلْحَاقًا لَهُ إذَا ثَبَتَ بِمَا يَلْزَمُهُ الِامْتِدَادُ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بِمَا لَمْ يَمْتَدَّ عَادَةً فَقُلْنَا فِي الْإِغْمَاءِ يَلْحَقُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ بِمَا لَا يَمْتَدُّ وَهُوَ النَّوْمُ، فَلَا يَسْقُطُ مَعَهُ الْوُجُوبُ، إذَا امْتَدَّ تَمَامَ الشَّهْرِ بَلْ يَثْبُتُ لِيَظْهَرَ حُكْمُهُ فِي الْقَضَاءِ لِعَدَمِ الْحَرَجِ إذْ لَا حَرَجَ فِي النَّادِرِ لِأَنَّ النَّادِرَ إنَّمَا يُفْرَضُ فَرْضًا، وَرُبَّمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ قَطُّ وَامْتِدَادُ الْإِغْمَاءِ شَهْرًا كَذَاكَ.
وَفِي حَقِّ الصَّلَاةِ بِمَا يَمْتَدُّ إذَا زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِثُبُوتِ الْحَرَجِ بِثُبُوتِ الْكَثْرَةِ بِالدُّخُولِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ فَلَا يَقْضِي شَيْئًا وَبِمَا لَا يَمْتَدُّ وَهُوَ النَّوْمُ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْحَرَجِ، وَقُلْنَا فِي الْجُنُونِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ لِاتِّحَادِ اللَّازِمِ فِيهِمَا، وَفِي حَقِّ الصَّوْمِ إنْ اسْتَوْعَبَ الشَّهْرَ أُلْحِقَ بِمَا يَلْزَمُهُ الِامْتِدَادُ لِأَنَّ امْتِدَادَ الْجُنُونِ شَهْرًا كَثِيرٌ غَيْرُ نَادِرٍ. فَلَوْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ مَعَ اسْتِيعَابِهِ لَزِمَ الْحَرَجُ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَوْعِبْهُ بِمَا لَا يَمْتَدُّ لِأَنَّ صَوْمَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي سَنَةٍ لَا يُوقِعُ فِي الْحَرَجِ. وَأَيْضًا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ الْجُنُونُ فِي الْغَالِبِ يَسْتَمِرُّ شَهْرًا وَأَكْثَرَ. وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُوجِبُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ وَبَيْنَ أَنْ يُفِيقَ الْمَجْنُونُ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ أَوْ بَعْدَهُ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الْحَلْوَانِيُّ وَإِنْ اخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ نَقَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا هُوَ فِي الْكِتَابِ، وَقَدَّمْنَا فِي الزَّكَاةِ الْخِلَافَ فِي نَقْلِ هَذَا الْخِلَافِ فَجُعِلَ هَذَا التَّفْصِيلُ قول أَبِي يُوسُفَ، وَقول مُحَمَّدٍ عَدَمَ التَّفْصِيلِ. وَقِيلَ الْخِلَافُ عَلَى عَكْسِهِ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَيَّدَ التَّفْصِيلَ بِثُبُوتِ التَّفْصِيلِ شَرْعًا فِي الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ وَالْحَيْضِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِيَّةِ امْتِدَادِ الطُّهْرِ وَعَارِضِيَّتِهِ، فَإِنَّ الطُّهْرَ إذَا امْتَدَّ امْتِدَادًا أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَتْ الصَّغِيرَةُ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَرَ دَمًا فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلَوْ بَلَغَتْ بِالْحَيْضِ ثُمَّ امْتَدَّ طُهْرُهَا اعْتَدَّتْ بِالْحَيْضِ فَلَا تَخْرُجُ مِنْ الْعِدَّةِ إلَى أَنْ تَدْخُلَ سِنَّ الْإِيَاسِ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ عَدَمَ لُزُومِهِ فَإِنَّ الْمَدَارَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لُزُومُ الْحَرَجِ وَعَدَمُهُ وَفِي الْعِدَّةِ الْمُتَّبَعُ النَّصُّ وَهُوَ يُوجِبُ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قولهُ: (وَفِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ) جَوَابٌ عَمَّا قَدْ يُقَالُ قولك الْأَهْلِيَّةُ بِالذِّمَّةِ وَمَرْجِعُ الذِّمَّةِ إلَى الْآدَمِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ أَصْلِ الْوُجُوبِ عَلَى الصَّبِيِّ فَقَالَ: هُوَ دَائِرٌ مَعَ الذِّمَّةِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهُ يَتْلُو الْفَائِدَةَ، وَلَا فَائِدَةَ فِي تَحَقُّقِهِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَضَاءِ لِتَحْصُلَ مَصْلَحَةُ الْفَرْضِ رَحْمَةً وَمِنَّةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فَائِدَةً إذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ إيجَابَ الْقَضَاءِ حَرَجًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ فَتَحَ بَابَ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، أَمَّا إذَا اسْتَلْزَمَهُ فَهُوَ مَعْدُومُ الْفَائِدَةِ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِطَرِيقِ التَّفْوِيتِ وَهُوَ الْحَرَجُ. وَذَلِكَ بَابُ الْعَذَابِ لَا الْفَائِدَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ الْأَفْرَادُ مِنْ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْفَوَائِدَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَسْتَتْبِعُهَا التَّكَالِيفُ إنَّمَا تُرَاعَى فِي حَقِّ الْعُمُومِ رَحْمَةً وَفَضْلًا لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى آحَادٍ مِنْ النَّاسِ، بِخِلَافِ ثُبُوتِهِ مَعَ الْجُنُونِ لِأَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ الْفَائِدَةَ أَوْ نَقول: لَا فَائِدَةَ لِأَنَّهَا فِي الْقَضَاءِ وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ لِلْحَرَجِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ لَمْ يَكُنْ لِفَائِدَةٍ.
قولهُ: (وَتَمَامُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ) إذَا حَقَّقْت مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا تَحَقَّقْت تَمَامَهُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ لَا صَوْمًا وَلَا فِطْرًا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَتَأَدَّى صَوْمُ رَمَضَانَ بِدُونِ النِّيَّةِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُؤَدِّيهِ يَقَعُ عَنْهُ، كَمَا إذَا وَهَبَ كُلَّ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْإِمْسَاكُ بِجِهَةِ الْعِبَادَةِ وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَفِي هِبَةِ النِّصَابِ وُجِدَ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الزَّكَاةِ (وَمَنْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فَأَكَلَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِغَيْرِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ إمْكَانَ التَّحْصِيلِ فَصَارَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْإِفْسَادِ وَهَذَا امْتِنَاعٌ إذْ لَا صَوْمَ إلَّا بِالنِّيَّةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ) قِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ التَّأْوِيلِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ حَالِ الْمُسْلِمِ كَافِيَةٌ فِي وُجُودِ النِّيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ يَكُونُ صَائِمًا يَوْمَهَا، وَإِنَّمَا يَقْضِي مَا بَعْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُ النِّيَّةِ مِنْهُ فِيهَا، فَلِذَا أُوِّلَ بِأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا أَوْ مُتَهَتِّكًا اعْتَادَ الْأَكْلَ فِي رَمَضَانَ، وَمَنْ حَقَّقَ تَرْكِيبَ الْكِتَابِ وَهُوَ قولهُ: وَمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ لَا صَوْمًا وَلَا فِطْرًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، جُزِمَ بِأَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، بِخِلَافِ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْإِغْمَاءَ قَدْ يُوجِبُ نِسْيَانَهُ حَالَ نَفْسِهِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ فَيُبْنَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ وَهُوَ وُجُودُ النِّيَّةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَهَتِّكًا يَعْتَادُ الْأَكْلَ فَيُفْتَى بِلُزُومِ صَوْمِهِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَيْضًا لِأَنَّ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى قِيَامِ النِّيَّةِ، أَمَّا هَاهُنَا فَإِنَّمَا عَلَّقَ وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِنَفْسِ عَدَمِ النِّيَّةِ ابْتِدَاءً لَا بِأَمْرٍ يُوجِبُ النِّسْيَانَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَدْرَى بِحَالَتِهِ. نَعَمْ لَوْ قَالَ: وَمَنْ شَكَّ أَنَّهُ كَانَ نَوَى أَوْ لَا أَمْكَنَ أَنْ يُجَابَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْبِنَاءِ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ كَمَا ذَكَرْنَا.
قولهُ: (فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ) قَيَّدَ بِهِمَا لِأَنَّ الْمُسَافِرَ وَالْمَرِيضَ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ النِّيَّةِ اتِّفَاقًا لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ فِي حَقِّهِمَا.
قولهُ: (كَمَا إذَا وَهَبَ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ) أَيْ عَلَى مَذْهَبِكُمْ فَهُوَ إلْزَامِيٌّ مِنْ زُفَرَ، فَإِنَّ إعْطَاءَ النِّصَابِ فَقِيرًا وَاحِدًا عِنْدَهُ لَا يَقَعُ بِهِ عَنْ الزَّكَاةِ. وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ أَيْضًا فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ فِيهِ عِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ مُطْلَقًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ مُطْلَقًا، وَعِنْدَهُمَا التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَتَجِبَ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِي هَذِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ.
قولهُ: (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْإِفْسَادِ وَهَذَا امْتِنَاعٌ) عَنْهُ لَا إفْسَادَ لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الشُّرُوعِ إلَّا أَنَّ لِأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَقول: الثَّابِتُ فِي الشَّرْعِ تَرْتِيبُهَا عَلَى الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ إذْ اسْمُ الْفِطْرِ لَا يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الصَّوْمِ، يُقَالُ: أَفْطَرْت الْيَوْمَ وَكَانَ مِنْ عَادَتِي صَوْمُهُ. إذَا أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ ثُمَّ أَكَلَ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الْإِمْسَاكَاتِ الْكَائِنَةَ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْفِطْرِ، كَمَا أَنَّ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الصَّوْمِ فَيَتَحَقَّقَ الْفِطْرُ بِالْأَكْلِ إذَا وَرَدَ عَلَيْهَا، إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا إذَا أَكَلَ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ. وَاَلَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّ الْمَلْحُوظَ لِكُلٍّ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَاقِعَةُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَرْوِيَّةُ فِي الْكَفَّارَةِ لَمَّا كَانَتْ فِي فِطْرٍ بِمَا هِيَ مُشْتَهًى حَالَ قِيَامِ الصَّوْمِ هَلْ يُفْهَمُ ثُبُوتُهَا فِي فِطْرٍ كَذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ، فَفَهِمَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفَهِمَ أَبُو حَنِيفَةَ عَدَمَهُ إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ جِنَايَةَ الْإِفْطَارِ حَالَ قِيَامِ الصَّوْمِ أَقْبَحُ مِنْهَا حَالَ عَدَمِهِ، فَإِلْزَامُ الْكَفَّارَةِ فِي صُورَةِ الْجِنَايَةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَظُ لَا يُوجِبُ فَهْمَ ثُبُوتِهَا فِيمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ خُصُوصًا مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ إلْغَاءِ كُلِّ مَا زَادَ عَلَى كَوْنِهِ فِطْرًا جِنَايَةً فِي صُورَةِ الْوَاقِعَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الْكَفَّارَةِ مَعَ قِيَامِ الْفِطْرِ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ فِي ابْتِلَاعِ الْحَصَى وَنَحْوِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَصْبَحَ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ ثُمَّ نَوَاهُ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ جَامَعَ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَرَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ. وَجْهُ النَّفْيِ شُبْهَةُ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، وَفِي الْمُنْتَقَى فِيمَنْ أَصْبَحَ يَنْوِي الْفِطْرَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ أَكَلَ عَمْدًا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَالْكَلَامُ فِيهِمَا وَاحِدٌ.

متن الهداية:
(وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ أَفْطَرَتْ وَقَضَتْ) بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا تُحْرَجُ فِي قَضَائِهَا وَقَدْ مَرَّ فِي الصَّلَاةِ (وَإِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ أَمْسَكَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَنْ صَارَ أَهْلًا لِلُّزُومِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ. هُوَ يَقول: التَّشْبِيهُ خَلَفٌ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ يَتَحَقَّقُ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ كَالْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا أَوْ مُخْطِئًا. وَلَنَا أَنَّهُ وَجَبَ قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ لَا خَلَفًا لِأَنَّهُ وَقْتٌ مُعَظَّمٌ، بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حَالَ قِيَامِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ عَنْ التَّشْبِيهِ حَسَبَ تَحَقُّقِهِ عَنْ الصَّوْمِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَنْ صَارَ أَهْلًا) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرٌ الْخِلَافِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُخْطِئِ مَنْ فَسَدَ صَوْمُهُ بِفِعْلِهِ الْمَقْصُودِ دُونَ قَصْدِ الْإِفْسَادِ كَمَنْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ عَدَمِ الْفَجْرِ أَوْ أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ الْفَجْرُ وَرَمَضَانُ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ وَقْتٌ مُعَظَّمٌ) وَتَعْظِيمُهُ بِعَدَمِ الْأَكْلِ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُرَخِّصُ قَائِمًا وَأَصْلُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَاشُورَاءَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا فَثَبَتَ بِهِ وُجُوبُ التَّشَبُّهِ أَصْلًا ابْتِدَاءً لَا خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ أَمْسَكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ) قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ أَوْ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ (وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ، كَمَا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَاصِرَةٌ لِعَدَمِ الْقَصْدِ، وَفِيهِ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ، قَضَاءُ يَوْمٍ عَلَيْنَا يَسِيرٌ، وَالْمُرَادُ بِالْفَجْرِ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الصَّلَاةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَهُوَ يُرَى) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ الرَّأْيِ بِمَعْنَى الظَّنِّ لَا الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَقولهِ رَأَيْت اللَّهَ أَكْبَرَ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ عَلِمْته، وَلَوْ صِيغَ مِنْهُ لِلْفَاعِلِ مُرَادًا بِهِ الظَّنَّ لَمْ يَمْتَنِعْ فِي الْقِيَاسِ لَكِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ بِمَعْنَاهُ إلَّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ:
وَكُنْت أَرَى زَيْدًا كَمَا قِيلَ سَيِّدًا ** إذ إنَّهُ عَبْدُ الْقَفَا وَاللَّهَازِمِ

فَأُرِيتُ بِمَعْنَى أُظْنِنْت: أَيْ دُفِعَ إلَيَّ الظَّنُّ.
قولهُ: (لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَاصِرَةٌ) لَيْسَ هُنَا جِنَايَةٌ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَقَدْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ الْإِثْمِ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ عَدَمَ تَثَبُّتِهِ إلَى أَنْ يَسْتَيْقِنَ جِنَايَةٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ جِنَايَةُ عَدَمِ التَّثَبُّتِ لَا جِنَايَةُ الْإِفْطَارِ كَمَا قَالُوا فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ إثْمُ الْقَتْلِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ فِيهِ إثْمَ تَرْكِ الْعَزِيمَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّثَبُّتِ حَالَ الرَّمْيِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجِنَايَاتِ: شَرْعُ الْكَفَّارَةِ يُؤْذِنُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُدْفَعَ بِأَنْ تَرَكَ التَّثَبُّتَ إلَى الِاسْتِيقَانِ فِي الْقَتْلِ لَيْسَ كَتَرْكِهِ إلَى الِاسْتِيقَانِ فِي الْفِطْرِ، وَأَيْضًا: الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْقول بِثُبُوتِهِ فِي الْقَتْلِ بِتَرْكِ التَّثَبُّتِ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ شَرْعُ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ مَفْقُودٌ هُنَا إذْ لَا كَفَّارَةَ، وَلَوْلَا هُوَ لَمْ نَجْسُرْ عَلَى الْقول بِذَلِكَ هُنَاكَ. وَحَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: أَفْطَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَصْحَابُهُ فِي يَوْمِ غَيْمٍ ظَنُّوا أَنَّ الشَّمْسَ غَابَتْ، قَالَ: فَطَلَعَتْ فَقَالَ عُمَرُ: مَا تَعَرَّضْنَا لِجَنَفٍ نُتِمُّ هَذَا الْيَوْمَ ثُمَّ نَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طُرُقٍ أَقْرَبُهَا إلَى لَفْظِ الْكِتَابِ مَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَنْظَلَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ وَقُرِّبَ إلَيْهِ شَرَابٌ فَشَرِبَ بَعْضُ الْقَوْمِ وَهُمْ يَرَوْنَ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ، ثُمَّ ارْتَقَى الْمُؤَذِّنُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاَللَّهِ إنَّ الشَّمْسَ طَالِعَةٌ لَمْ تَغْرُبْ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ كَانَ أَفْطَرَ فَلْيَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَفْطَرَ فَلْيُتِمَّ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ. وَأَعَادَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَزَادَ فَقَالَ لَهُ: بَعَثْنَاك دَاعِيًا وَلَمْ نَبْعَثْك رَاعِيًا، وَقَدْ اجْتَهَدْنَا، وَقَضَاءُ يَوْمٍ يَسِيرٌ. وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ خِطَابَهُ لَهُ مِنْ أَعْلَى الْمِئْذَنَةِ رَافِعًا صَوْتَهُ لَيْسَ مِنْ الْأَدَبِ، بَلْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَنْزِلَ فَيُخْبِرَهُ مُتَأَدِّبًا.

متن الهداية:
(ثُمَّ التَّسَحُّرُ مُسْتَحَبٌّ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» (وَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ: تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَالسِّوَاكُ» (إلَّا أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ) وَمَعْنَاهُ تَسَاوِي الظَّنَّيْنِ (الْأَفْضَلُ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ) تَحَرُّزًا عَنْ الْمُحَرَّمِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَوْ أَكَلَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ اللَّيْلُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَبِينُ الْفَجْرَ، أَوْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ مُقْمِرَةً أَوْ مُتَغَيِّمَةً. أَوْ كَانَ بِبَصَرِهِ عِلَّةٌ وَهُوَ يَشُكُّ لَا يَأْكُلُ، وَلَوْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ وَالْفَجْرُ طَالِعٌ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عَمَلًا بِغَالِبِ الرَّأْيِ، وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ. وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْعَمْدِيَّةُ (وَلَوْ شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ) لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ النَّهَارُ (وَلَوْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ النَّهَارَ هُوَ الْأَصْلُ، وَلَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَغْرُبْ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ نَظَرًا إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ النَّهَارُ.
الشَّرْحُ:
وَحَدِيثُ «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ حُصُولُ التَّقَوِّي بِهِ عَلَى صَوْمِ الْغَدِ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «اسْتَعِينُوا بِقَائِلَةِ النَّهَارِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَبِأَكْلِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ». أَوْ الْمُرَادُ زِيَادَةُ الثَّوَابِ لِاسْتِنَانِهِ بِسُنَنِ الْمُرْسَلِينَ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «فَرْقُ مَا بَيْنَ صَوْمِنَا وَصَوْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ» وَلَا مُنَافَاةَ فَلْيَكُنْ الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَالسَّحُورُ مَا يُؤْكَلُ فِي السَّحَرِ وَهُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ، وَقولهُ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ فِي أَكْلِ السُّحُورِ بَرَكَةٌ بِنَاءٌ عَلَى ضَبْطِهِ بِضَمِّ السِّينِ جَمْعُ سَحَرٍ فَأَمَّا عَلَى فَتْحِهَا وَهُوَ الْأَعْرَفُ فِي الرِّوَايَةِ فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ فِي السَّحَرِ، كَالْوَضُوءِ بِالْفَتْحِ مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ. وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ الضَّمُّ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ وَنَيْلَ الثَّوَابِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ لَا بِنَفْسِ الْمَأْكُولِ. وَحَدِيثُ «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ» عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَاَلَّذِي فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ الْعَبَّادَانِيِّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ مُورِقٍ الْعِجْلِيّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ: تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ». وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مَوْقُوفًا، وَذَكَرَ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَادِ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِمَّا فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ كُنْت أَتَسَحَّرُ ثُمَّ يَكُونُ لِي سُرْعَةٌ أَنْ أُدْرِكَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرَ خَمْسِينَ آيَةً».
قولهُ: (إلَّا أَنَّهُ إذَا شَكَّ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قولهِ ثُمَّ التَّسَحُّرُ مُسْتَحَبٌّ، وَأَخْذُ الظَّنِّ فِي تَفْسِيرِ الشَّكِّ بِنَاءٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الظَّنِّ فِي الْإِدْرَاكِ مُطْلَقًا.
قولهُ: (فَصَوْمُهُ تَامٌّ) أَيْ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ الْفَجْرِ فَيَقْضِي حِينَئِذٍ.
قولهُ: (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ) يُفِيدُ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ تِلْكَ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّ اسْتِحْبَابَ التَّرْكِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْإِسَاءَةِ إنْ لَمْ يُتْرَكْ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ مَفْضُولًا، وَفِعْلُ الْمَفْضُولِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِسَاءَةَ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ «فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَتَقول: الْمَرْوِيُّ لَفْظُ الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ مُقْتَضَاهُ الْوُجُوبُ فَيَلْزَمُ بِتَرْكِهِ الْإِثْمُ لَا الْإِسَاءَةُ، وَإِنْ صُرِفَ عَنْهُ بِصَارِفٍ كَانَ نَدْبًا وَلَا إسَاءَةَ بِتَرْكِ الْمَنْدُوبِ، بَلْ إنَّ فَعَلَهُ نَالَ ثَوَابَهُ وَإِلَّا لَمْ يَنَلْ شَيْئًا فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ كَوْنِهِ دَلِيلَ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ فَلَا يَصْلُحُ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى هَذِهِ إلَّا أَنْ يُرَادَ إسَاءَةً مَعَهَا إثْمٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ) وَلَا كَفَّارَةَ.
قولهُ: (وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ) وَاللَّيْلُ أَصْلٌ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَّا بِيَقِينٍ، وَصَحَّحَهُ فِي الْإِيضَاحِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ أَنَّ الْمُتَيَقَّنَ إنَّمَا هُوَ دُخُولُ اللَّيْلِ فِي الْوُجُودِ لَا امْتِدَادُهُ إلَى وَقْتِ تَحَقُّقِ ظَنِّ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِاسْتِحَالَةِ تَعَارُضِ الْيَقِينِ مَعَ الظَّنِّ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَعْنَى الْيَقِينِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، فَضْلًا أَنْ يَثْبُتَ ظَنُّ النَّقِيضِ، فَإِذَا فُرِضَ تَحَقُّقُ ظَنِّ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي وَقْتٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ الْوَقْتُ مَحَلَّ تَعَارُضِ الظَّنِّ بِهِ، وَالْيَقِينِ بِبَقَاءِ اللَّيْلِ، بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مَحَلُّ تَعَارُضِ دَلِيلَيْنِ ظَنِّيَّيْنِ فِي بَقَاءِ اللَّيْلِ وَعَدَمِهِ، وَهُمَا الِاسْتِصْحَابُ وَالْأَمَارَةُ الَّتِي بِحَيْثُ تُوجِبُ ظَنَّ عَدَمِهِ لَا تُعَارِضُ ظَنَّيْنِ فِي ذَلِكَ أَصْلًا إذْ ذَاكَ لَا يُمْكِنُ، لِأَنَّ الظَّنَّ هُوَ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ مِنْ الِاعْتِقَادِ فَإِذَا فُرِضَ تَعَلُّقُهُ بِأَنَّ الشَّيْءَ كَذَا اسْتَحَالَ تَعَلُّقُ آخَرَ بِأَنَّهُ لَا كَذَا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، إذْ لَيْسَ لَهُ إلَّا طَرَفٌ وَاحِدٌ رَاجِحٌ، فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالثَّابِتُ تَعَارُضُ ظَنَّيْنِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَعَدَمِهِ فَيَتَهَاتَرَانِ، لِأَنَّ مُوجِبَ تَعَارُضِهِمَا الشَّكُّ لَا ظَنٌّ وَاحِدٌ فَضْلًا عَنْ ظَنَّيْنِ، وَإِذَا تَهَاتَرَا عُمِلَ بِالْأَصْلِ وَهُوَ اللَّيْلُ فَحَقِّقْ هَذَا وَأَجْرِهِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ كَقولهِمْ: فِي شَكِّ الْحَدَثِ بَعْدَ يَقِينِ الطَّهَارَةِ الْيَقِينُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ وَنَحْوِهِ.
قولهُ: (وَلَوْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) وَفِي الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ، وَمُخْتَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ لُزُومُهَا لِأَنَّ الثَّابِتَ حَالَ غَلَبَةِ ظَنِّ الْغُرُوبِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ لَا حَقِيقَتُهَا، فَفِي حَالِ الشَّكِّ دُونَ ذَلِكَ وَهُوَ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَهِيَ لَا تُسْقِطُ الْعُقُوبَاتِ، هَذَا إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ الْحَالُ، فَإِنْ ظَهَرَ أَكْلٌ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، ذوَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقولهِ وَلَوْ كَانَ شَاكًّا إلَى قولهِ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ.
قولهُ: (فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ رِوَايَةً وَاحِدَةً) أَيْ إذَا لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَكَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ لِأَنَّ النَّهَارَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ أَكْبَرُ رَأْيِهِ. وَأَوْرَدَ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِأَنَّهَا غَرَبَتْ وَاثْنَانِ بِأَنْ لَا فَأَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ عَدَمَ الْغُرُوبِ لَا كَفَّارَةَ مَعَ أَنَّ تَعَارُضَهُمَا يُوجِبُ الشَّكَّ. أُجِيبُ بِمَنْعِ الشَّكِّ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بِعَدَمِهِ عَلَى النَّفْيِ فَبَقِيَتْ الشَّهَادَةُ بِالْغُرُوبِ بِلَا مُعَارِضٍ فَتُوجِبُ ظَنَّهُ، وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.

متن الهداية:
(وَمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ) لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ اسْتَنَدَ إلَى الْقِيَاسِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ، وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَعَلِمَهُ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تَجِبُ، وَكَذَا عَنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ فَلَا شُبْهَةَ. وَجْهُ الْأَوَّلِ قِيَامُ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْقِيَاسِ فَلَا يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا) أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ أَوْ جَامَعَ عَامِدًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَصْبَحَ مُسَافِرًا فَنَوَى الْإِقَامَةَ فَأَكَلَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
قولهُ: (وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ) يَعْنِي قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ لَا تَجِبُ وَصَحَّحَهُ قَاضِي خَانَ، وَفِي رِوَايَةٍ تَجِبُ وَكَذَا عَنْهُمَا، وَمَرْجِعُ وَجْهَيْهِمَا إلَى أَنَّ انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ لَازِمُ انْتِفَاءَ الِاشْتِبَاهِ أَوْ لَا، فَقولهُمَا بِنَاءٌ عَلَى ثُبُوتِ اللُّزُومِ وَالْمُخْتَارُ بِنَاءٌ عَلَى ثُبُوتِ الِانْفِكَاكِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِثُبُوتِ دَلِيلِ الْفِطْرِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْقَوِيُّ وَهُوَ ثَابِتٌ لَمْ يَنْتَفِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بِالْفِطْرِ، وَصُرِفَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» إلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا النَّصُّ لَقُلْت يُفْطِرُ. وَصَارَ كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ لَا يُحَدُّ وَإِنْ عَلِمَ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى قِيَامِ شُبْهَةِ الْمِلْكِ الثَّابِتَةِ بِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِثُبُوتِ هَذَا الدَّلِيلِ، وَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ الرَّاجِحُ عَلَى تَبَايُنِ الْمِلْكَيْنِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ احْتَجَمَ وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ) لِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ إلَّا إذَا أَفْتَاهُ فَقِيهٌ بِالْفَسَادِ لِأَنَّ الْفَتْوَى دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فِي حَقِّهِ، وَلَوْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَمَدَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ قول الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَنْزِلُ عَنْ قول الْمُفْتِي، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ عَرَفَ تَأْوِيلَهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ، وَقول الْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ. (وَلَوْ أَكَلَ بَعْدَمَا اغْتَابَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ كَيْفَمَا كَانَ) لِأَنَّ الْفِطْرَ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، وَالْحَدِيثُ مُؤَوَّلٌ بِالْإِجْمَاعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ) يَعْنِي: فِيمَا إذَا لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْفِطْرِ مِمَّا خَرَجَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا فَإِنَّهُ كَالْأَوَّلِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْقَيْءَ يُوجِبُ غَالِبًا عَوْدَ شَيْءٍ إلَى الْحَلْقِ لِتَرَدُّدِهِ فِيهِ فَيَسْتَنِدُ ظَنُّ الْفِطْرِ إلَى دَلِيلٍ، أَمَّا الْحِجَامَةُ فَلَا تَطَرُّقَ فِيهَا إلَى الدُّخُولِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَيَكُونُ تَعَمُّدُ أَكْلِهِ بَعْدَهُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ إلَّا إذَا أَفْتَاهُ مُفْتٍ بِالْفَسَادِ، كَمَا هُوَ قول الْحَنَابِلَةِ، وَبَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَأَكَلَ بَعْدَهُ لَا كَفَّارَةَ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ فَتْوَى مُفْتِيهِ. (وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَمَدَهُ) عَلَى ظَاهِرِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَأْوِيلِهِ وَهُوَ عَامِّيٌّ (فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) أَيْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قول الْمُفْتِي يُورِثُ الشُّبْهَةَ الْمُسْقِطَةَ، فَقول الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْلَى، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُسْقِطُهَا (لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ) فَإِذَا اعْتَمَدَهُ كَانَ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يَقُومُ شُبْهَةً مُسْقِطَةً لَهَا (وَإِنْ عَرَفَ تَأْوِيلَهُ) ثُمَّ أَكَلَ (تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ، وَقول الْأَوْزَاعِيِّ) إنَّهُ يُفْطِرُ (لَا يُورِثُ شُبْهَةً لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ) مَعَ فَرْضِ عِلْمِ الْآكِلِ كَوْنَ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، ثُمَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ، أَوْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَلَا بَأْسَ بِسَوْقِ نُبْذَةٍ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَاهُ، وَنُقِلَ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الْبَابِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ «أَنَّهُ مَرَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْفَتْحِ عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ بِالْبَقِيعِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَصَحَّحُوهُ. وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكُبْرَى عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كِلَاهُمَا عِنْدِي صَحِيحٌ، حَدِيثَيْ ثَوْبَانَ وَشَدَّادٍ، وَعَنْ ابْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ ثَوْبَانَ وَحَدِيثُ شَدَّادَ صَحِيحَانِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَصَحَّحَهُ. قَالَ: وَذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذَا. وَبَلَغَ أَحْمَدَ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ ضَعَّفَهُ، وَقَالَ: إنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ يَثْبُتُ، فَقَالَ: إنَّ هَذَا مُجَازَفَةٌ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: ثَابِتٌ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: مُتَوَاتِرٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ مَا قَالَهُ بِبَعِيدٍ، وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَالسُّنَنِ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِيِّ وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُفْطِرُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ادِّعَاءُ النَّسْخِ، وَذَكَرُوا فِيهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ». وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قال: «أَوَّلُ مَا كَرِهْتُ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَفْطَرَ هَذَانِ ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ»، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ عِلَّةً، وَمَا رَوَى النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْت حُمَيْدًا الطَّوِيلَ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَرَخَّصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ» ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ عَنْ سُفْيَانَ بِسَنَدِ الطَّبَرَانِيِّ. وَسَنَدُ الطَّبَرَانِيِّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ دَاوُد الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِنْ قولهِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا لَا يَقْدَحُ فِي الرَّفْعِ بَعْدَ ثِقَةِ رِجَالِهِ. وَالْحَقُّ فِي تَعَارُضِ الْوَقْفِ وَالرَّفْعِ تَقَدُّمُ الرَّفْعُ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ وَهِيَ مِنْ الثِّقَةِ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، ثُمَّ دَلَّ حَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَرْوِيَّ بَعْدَ النَّهْيِ، وَإِلَّا لَزِمَ تَكْرِيرُ النَّسْخِ إذْ كَانَ الْحَاصِلُ الْآنَ بِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ الْإِطْلَاقَ، وَعَدَمُهُ أَوْلَى فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَلَفْظُ رَخَّصَ أَيْضًا ظَاهِرٌ فِي تَقَدُّمِ الْمَنْعِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: النَّاسِخُ أَدْنَى حَالِهِ أَنْ يَكُونَ فِي قُوَّةِ الْمَنْسُوخِ وَلَيْسَ هُنَا هَذَا، أَمَّا حَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ سَنَدُهُ يُحْتَجُّ بِهِ، لَكِنْ أَعَلَّهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ بِأَنَّهُ لَمْ يُورِدْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ وَالصَّحِيحِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ فِي كِتَابٍ مِنْ الْكُتُبِ الْأُمَّهَاتِ كَمُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ، وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهَا مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِهِ رِوَايَةٌ لَذَكَرَهَا فِي مُصَنَّفِهِ، فَكَانَ حَدِيثًا مُنْكَرًا، لَكِنْ مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ الْمَرْوَزِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ بَعْدَمَا قَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَلَا مَعْنَى لِقولهِ بَعْدَمَا قَالَ إلَخْ إلَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ. وَكَذَا فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: «احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا قَالَ» الْحَدِيثَ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَطَلْحَةُ هَذَا احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ظَاهِرِ حَدِيثِ النَّسَائِيّ يَدْفَعُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ، وَلَا نُسَلِّمُ تَوَاتُرَ الْمَنْسُوخِ وَكَذَا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» وَحَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» وَهُوَ صَحِيحٌ، فَإِنْ أُعِلَّا بِإِنْكَارِ أَحْمَدَ أَنْ يَكُونَ سِوَى احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ صَائِمٌ. قَالَ مُهَنَّأٌ: قُلْت لَهُ مَنْ ذَكَرَهُ؟ قَالَ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «احْتَجَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَكَذَلِكَ رَوَاهُ رَوْحٌ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَهُ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعْتَمِرٍ عَنْ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَهُ. قَالَ أَحْمَدُ: فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَذْكُرُونَ صَائِمًا فَلَيْسَ بِلَازِمٍ إذْ قَدْ رَوَاهُ عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِكْرِمَةُ وَمِقْسَمٌ، وَيَجُوزُ كَوْنُ مَا وَقَعَ فِي تِلْكَ الطُّرُقِ عَنْ أُولَئِكَ اقْتِصَارًا مِنْهُمْ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ ذِكْرِ صَائِمٍ، أَوْ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ حَدَّثَ بِهِ لِكَوْنِ غَرَضِهِ إذْ ذَاكَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِذَلِكَ فَقَطْ نَفْيًا لِتَوَهُّمِ كَوْنِ الْحِجَامَةِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَلِذَا لَمْ يَكُنْ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَرَى بِالْحِجَامَةِ بَأْسًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ. وَقول شُعْبَةَ: لَمْ يَسْمَعْ الْحَكَمُ مِنْ مِقْسَمٍ حَدِيثَ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ يَمْنَعُهُ الْمُثْبِتُ. وَأَمَّا رِوَايَةُ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ وَهِيَ الَّتِي أَخْرَجَهَا ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَضْعَفُ سَنَدًا وَأَظْهَرُ تَأْوِيلًا، إمَّا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُحْرِمًا إلَّا وَهُوَ مُسَافِرٌ، وَالْمُسَافِرُ يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ بَعْدَ الشُّرُوعِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ جَوَابُ ابْنِ خُزَيْمَةَ، أَوْ أَنَّ الْحِجَامَةَ كَانَتْ مَعَ الْغُرُوبِ كَمَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: إنَّهُ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ أَبَا طِيبَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ مَعَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَضَعَ الْمَحَاجِمَ مَعَ إفْطَارِ الصَّائِمِ فَحَجَمَهُ ثُمَّ سَأَلَهُ: كَمْ خَرَاجُكَ؟ قَالَ: صَاعَانِ فَوَضَعَ عَنْهُ صَاعًا».اهـ. فَلَمْ يَنْهَضْ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ نَاسِخًا لِقُوَّةِ ذَلِكَ. الثَّانِي: التَّأْوِيلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ ذَهَابُ ثَوَابِ الصَّوْمِ بِسَبَبِ أَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ ذَكَرَهُ الْبَزَّارُ، فَإِنَّهُ بَعْدَمَا رَوَى حَدِيثَ ثَوْبَانَ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَسْنَدَ إلَى ثَوْبَانَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» لِأَنَّهُمَا كَانَا اغْتَابَا وَرَوَى الْعُقَيْلِيُّ فِي ضُعَفَائِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد بْنُ مُوسَى بَصْرِيٌّ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَطَاءٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلَيْنِ يَحْجُمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَاغْتَابَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَقَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا لِلْحِجَامَةِ وَلَكِنْ لِلْغِيبَةِ لَكِنْ أُعِلَّ بِالِاضْطِرَابِ، فَإِنَّ فِي بَعْضِهَا إنَّمَا مَنَعَ إبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ خَشْيَةَ الضَّعْفِ فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، فَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ وَإِعْمَالُ كُلٍّ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ احْتِجَامِهِ وَتَرْخِيصِهِ وَمَنْعِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ يَبْعُدُ عَدَمُ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُلَازَمَتِهِمْ إيَّاهُ، وَحِفْظِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ خَلَّادٍ عَنْ شَقِيقِ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَأَمَّا أَنَا فَلَوْ احْتَجَمْت مَا بَالَيْ. وَمَا أُخْرِجَ أَيْضًا عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بِالْحِجَامَةِ بَأْسًا. وَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَجِبُ أَحَدُ الِاعْتِبَارَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ مِنْ النَّسْخِ فِي الْوَاقِعِ أَوْ التَّأْوِيلِ.
قولهُ: (وَالْحَدِيثُ مُؤَوَّلٌ بِالْإِجْمَاعِ) بِذَهَابِ الثَّوَابِ فَيَصِيرُ كَمَنْ لَمْ يَصُمْ، وَحِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ خِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ فِي هَذَا فَإِنَّهُ حَادِثٌ بَعْدَمَا مَضَى السَّلَفُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَا قُلْنَا، وَيُرِيدُ بِالْحَدِيثِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَا صَامَ مَنْ ظَلَّ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ وَزَادَ «إذَا اغْتَابَ الرَّجُلُ فَقَدْ أَفْطَرَ» وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَجُلَيْنِ صَلَّيَا صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَكَانَا صَائِمَيْنِ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ: أَعِيدَا وُضُوءَكُمَا وَصَلَاتَكُمَا وَامْضِيَا فِي صَوْمِكُمَا وَاقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ. قَالَا: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اغْتَبْتُمَا فُلَانًا» وَفِيهِ أَحَادِيثُ أُخَرُ، وَالْكُلُّ مَدْخُولٌ. وَلَوْ لَمَسَ أَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ ضَاجَعَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا كَانَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا تَأَوَّلَ حَدِيثًا أَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا، فَأَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَخْطَأَ الْفَقِيهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْفَتْوَى وَالْحَدِيثِ يَصِيرُ شُبْهَةً، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ. وَفِيهِ: لَوْ دَهَنَ شَارِبَهُ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِمَا قُلْنَا، يَعْنِي: مَا ذَكَرَهُ فِيمَنْ اغْتَابَ فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ فَأَكَلَ عَمْدًا مِنْ قولهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِفَتْوَى الْفَقِيهِ وَلَا بِتَأْوِيلِهِ الْحَدِيثَ هُنَا لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَشْتَبِهُ عَلَى مَنْ لَهُ سِمَةٌ مِنْ الْفِقْهِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَرْوِيِّ «الْغَيْبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ» حَقِيقَةَ الْإِفْطَارِ، فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ شُبْهَةً.

متن الهداية:
(وَإِذَا جُومِعَتْ النَّائِمَةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ وَهِيَ صَائِمَةٌ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالنَّاسِي، وَالْعُذْرُ هُنَا أَبْلَغُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ. وَلَنَا أَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَهَذَا نَادِرٌ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِدَامِ الْجِنَايَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (أَوْ الْمَجْنُونَةُ) قِيلَ: كَانَتْ فِي الْأَصْلِ الْمَجْبُورَةُ فَصَحَّفَهَا الْكُتَّابُ إلَى الْمَجْنُونَةِ، وَعَنْ الْجُوزَجَانِيِّ قُلْت لِمُحَمَّدٍ: كَيْفَ تَكُونُ صَائِمَةً وَهِيَ مَجْنُونَةٌ؟ فَقَالَ لِي: دَعْ هَذَا فَإِنَّهُ انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ. وَعَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ قُلْت لِمُحَمَّدٍ: هَذِهِ الْمَجْنُونَةُ فَقَالَ: لَا بَلْ الْمَجْبُورَةُ أَيْ الْمُكْرَهَةُ، قُلْت: أَلَا نَجْعَلُهَا مَجْبُورَةً؟ فَقَالَ بَلَى، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ وَقَدْ سَارَتْ بِهَا الرِّكَابُ؟ دَعُوهَا، فَهَذَانِ يُؤَيِّدَانِ كَوْنَهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ الْمَجْبُورَةِ فَصُحِّفَ، ثُمَّ لَمَّا انْتَشَرَ فِي الْبِلَادِ لَمْ يُفِدْ التَّغْيِيرُ وَالْإِصْلَاحُ فِي نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ فَتَرَكَهَا لِإِمْكَانِ تَوْجِيهِهَا أَيْضًا، وَهُوَ بِأَنْ تَكُونَ عَاقِلَةٌ نَوَتْ الصَّوْمَ فَشَرَعَتْ ثُمَّ جُنَّتْ فِي بَاقِي النَّهَارِ، فَإِنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ إنَّمَا يُنَافِي شَرْطَهُ؛ أَعْنِي النِّيَّةَ، وَقَدْ وُجِدَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ، فَلَا يَجِبُ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ إذَا أَفَاقَتْ كَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ لَا يَقْضِي الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ وَقَضَى مَا بَعْدَهُ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِيمَا بَعْدَهُ، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا جُومِعَتْ هَذِهِ الَّتِي جُنَّتْ صَائِمَةً تَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ لِطُرُوِّ الْمُفْسِدِ عَلَى صَوْمٍ صَحِيحٍ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَقَدَّمْنَا أَوَّلَ بَابِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي مَا يُغْنِي عَنْ الْإِعَادَةِ هُنَا.